كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو بكر الأنباري: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في الكشاف: يقال: شيخ مفنّد ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل: التفنيد الإفساد يقال: فندت فلانًا إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم:
يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي ** فليس ما فات من أمر بمردود

ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك: {قالوا}، أي: الحاضرون عنده: {تالله إنك لفي ضلالك}، أي: حبك: {القديم} ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف: {إن أبانا لفي ضلال مبين} [يوسف] وقال مقاتل: معنى الضلال هنا الشقاء، أي: شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن: إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهبًا عن الرشد والصواب، ثم أنهم عجلوا له بشيرًا فأسرع قبل وصولهم بالقميص: {فلما} وزيدت: {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد: {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك القميص: {ألقاه}، أي: طرحه البشير: {على وجهه}، أي: يعقوب، وقيل: ألقاه يعقوب على وجه نفسه: {فارتدّ}، أي: رجع: {بصيرًا}، أي: صيره الله بصيرًا كما كان، كما يقال: طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك: {قال} لبنيه: {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في: بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي: يا لطيفًا فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: تركته ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة فعند ذلك {قالوا يا أبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع: {استغفر}، أي: اطلب من الله تعالى أن يغفر: {لنا ذنوبنا}، أي: التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقًا للإخلاص في التوبة: {إنا كنا خاطئين}، أي: متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه». فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} لهم: {سوف أستغفر}، أي: أطلب أن يغفر: {لكم ربي} الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة، وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة.
وقال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس: أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل: استغفر لهم في الحال، وقوله: {سوف أستغفر لكم} معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
وعن الشعبي قال: أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي: {إنه هو الغفور الرحيم} كل ذلك تسكينًا لقلوبهم وتصحيحًا لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازًا كثيرًا ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى: {فلما دخلوا على يوسف آوى}، أي: ضمّ: {إليه أبويه} قال الحسن: أباه وأمّه وكانت حية إكرامًا لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ: وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر.
فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل مصر؟
أجيب: بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه: {وقال} مكرمًا: {ادخلوا مصر}، أي: البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال: {إن شاء الله آمنين} من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلًا سوى الصبيان والشيوخ.
{و} لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر: {رفع أبويه}، أي: أجلسهما معه: {على العرش}، أي: السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ: {وخرّوا له}، أي: انحنوا له أبواه وإخوته: {سجدًا}، أي: سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجودًا كقول الشاعر:
ترى ألا كم فيها سجدًا للحوافر

لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة العبادة، وكان ذلك جائزًا في الأمم السالفة، فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه خرّوا لله سجدًا بين يدي يوسف عليه السلام، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف، ويدل عليه قوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجدًا} وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير، ثم سجدوا لله تعالى، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع.
فإن قيل: هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام: {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} والمراد منه قوله: {إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف] أي: رأيتهم ساجدين لأجلي، أي: أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملًا سقط السؤال قال الرازيّ: وعندي أنّ هذا التأويل متعين؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكرًا لنعمة وجدانه، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة.
قال حسان:
ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف ** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

أليس أوّل من صلى لقبلتكم ** وأعرف الناس بالآثار والسنن

ثم استأنف يوسف عليه السلام فقال: {قد جعلها ربي}، أي: الذي رباني بما أوصلني إليها: {حقًا}، أي: مطابقة للواقع لتأويلها وتأويل ما أخبرتني به أنت، والتأويل تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام، وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنّ ما بين رؤياه وتأويلها أربعون سنة. وعن الحسن: أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، فكان عمره وعشرين سنة: {وقد أحسن}، أي: أوقع إحسانه: {بي} تصديقًا لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية أحسن بالباء أدل على القرب من التعدية بإلى، وإن كان أصل أحسن أن يتعدّى بإلى كما قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص] وقيل: ضمن معنى لطف فتعدّى بالباء كقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} [البقرة] وقال: {إذ أخرجني من السجن} ولم يذكر إخراجه من الجب لوجوه: أوّلها: أنه قال لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم} [يوسف] ولو ذكر واقعة الجب لكان ذلك تثريبًا لهم فكان إهماله جاريًا مجرى الكرم.
ثانيها: أنه لما خرج من الجب لم يصر ملكًا بل صيروه عبدًا، وإنما صار ملكًا بعد إخراجه من السجن، فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعامًا كاملًا. ثالثها: أنه لما خرج من الجب وقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة ولما خرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته، فكان هذا أقرب إلى المنفعة مع أنّ اللفظ محتمل للجب أيضًا لكنه احتمال خفيّ، ولما كان يعقوب وولده بأرض كنعان وتحوّل إلى بدو قال ابن عباس: ومنه قدم على يوسف قال يوسف عليه السلام: {وجاء بكم من البدو}، أي: من أطراف بادية فلسطين وذلك من أكبر النعم، كما جاء في الحديث: «من يرد الله به خيرًا ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو ضدّ الحاضرة، وهو من الظهور يقال: بدا يبدو إذا سكن في البادية، يروى عن عمر: إذا بدونا جفونا، أي: تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي: البدو بسط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدوًا، ثم سمي المكان باسم المصدر، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه: {من بعد أن نزغ}، أي: أفسد: {الشيطان} بسبب الحسد: {بيني وبين إخوتي} وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده.
فإن قيل: إضافة يوسف عليه السلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة، ولو كان منه لأضافه إليه.
أجيب: بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة، قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء] فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} [إبراهيم] ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليه السلام: {إنّ ربي لطيف لما يشاء}، أي: لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول: {إنه هو العليم} بوجوه المصالح والتدابير: {الحكيم}، أي: الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليه السلام طاف بأبيه في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس قال: يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل بذلك قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أقرب مني إليه، فسأله فقال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب، قال: فهلا خفتني؟ ولما حضر يعقوب عليه السلام الموت وصى يوسف عليه السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة. ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثًا وعشرين سنة.
ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال: {رب قد آتيتني} وافتتح بقد؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا: {من الملك}، أي: بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر: {وعلمتني من}، أي: بعض. طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك: {والله غالب على أمره} [يوسف] ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال: {فاطر}، أي: خالق: {السموات والأرض} ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء: {أنت وليي}، أي: الأقرب إليّ باطنًا وظاهرًا: {في الدنيا والآخرة}، أي: لا وليّ لي غيرك، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فلهذا المعنى من أراد الدعاء لابد وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديت فاطر السموات والأرض} ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله: {توفني}، أي: اقبض روحي وافيًا تامًّا في جميع أمري حسًا ومعنى حال كوني: {مسلمًا} ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقًا في الإخلاص عقبه بقوله: {وألحقني بالصالحين} ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء] فمن هاهنا إلى قوله: {رب هب لي حكمًا} ثناء على الله تعالى ثم قوله: {رب هب لي حكمًا} إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا.
تنبيه: اختلف في قوله: {توفني مسلمًا} هل هو طلب منه للوفاة أم لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة، واللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور:
أحدها: أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها: أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات.
وثالثها: أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات، ومنها: أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها: أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية، فإنه لا يمكن إبقاؤها، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ، بالأكل، فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية: وثانيها: أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم، ولا شك أنه شيء منفر، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضًا منفر، وثالثها: أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها، ورابعها: أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع، والجوع نقص وآفة، وخامسها: أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل: من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكًا بسبب طلب المال.
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها: أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان، ومنها: أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعًا أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له: صنع الله لك خيرًا كثيرًا أحييت سننًا، وأمت بدعًا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين}.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز؟
أجيب: بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس وينشرح الصدر، وينفسح القلب في هذا الباب، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى. فإن قيل: إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية؟
أجيب: بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيبًا طاهرًا، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء، وتصل بركته إلى جميعهم، قال عكرمة: دفن في الجانب، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب، وأجدب الجانب، الآخر، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام، وقد يسر الله تعالى زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمئة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته. اهـ.